سورة يونس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


يقول الحق جل جلاله: {وما يتبع} أكثر المشركين في اعتقادهم {إلا ظَنّاً} مستنداً إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهوبة. والمراد بالأكثر الجميع، أو من ينتسب منهم إلى تمييز ونظر، ولم يرضى بالتقليد الصرف، {إن الظن لا يغنى من الحق}؛ من علم التحقيق {شيئاً}، أو {من} الاعتقاد {الحق شيئاً} من الإغناء. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، وأن الاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. اهـ. وعدم الاكتفاء بالظن إنما هو في الأصول، وأما الفروع فالظن فيها كاف. {إن الله عليم بما يفعلون} هذا وعيد لهم على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن النظر والاستدلال، وعلى عدم اتباعهم من يدلهم على الحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الناس على قسمين: أهل تصديق وإيمان، وأهل شهود وعيان. فأهل التصديق والإيمان هم عامة أهل اليمين، وهم أكثر المسلمين من العلماء الصالحين، يستندون في معرفتهم بالله إلى الدليل والبرهان، فتارة يقوى عندهم الدليل فيترقَّون عن اتباع الظن إلى الجزم والتصميم، وتارة يضعف فيرجعون إلى اتباع الظن الراجح.
وأما أهل الشهود والعيان، فقد غابت عنهم الأكوان في شهود المكوّن، فصاروا يستدلون بالله على وجوه غيره، فلا يجدونه، حتى قال بعضهم: لو كُلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى اشهده، محال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم:
مذْ عَرَفتُ الإِله لَم أَرَ غَيراً *** وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ
مُذ تَجَمَّعَتُ ما خَشِيتُ افتراقاً *** فَأَنا اليَومَ وَاصِلٌ مَجمُوعُ
وقال آخر:
عجبتُ لِمْنَ يَنبَغي عَلَيكَ شَهَادَةً *** وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد
وقال في الحكم: (شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا... فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه!).
ولا مطمع لأحد في التطهير من الظنون والأوهام إلا بصحبة شيخ كامل عارف بالله، فيلقي إليه نفسه، فلا يزال يسير به، حتى يقول له: ها أنت وربك، فحينئذٍ ترتفع عنه الشكوك والظنون والأوهام، ويبلغ في مشاهدة الحق إلى عين اليقين وحق اليقين. وأما قول الجنيد رضي الله عنه: (أدركت سبعين صديقاً، كلهم يعبدون الله على الظن والوهم، حتى الشيخ أبا يزيد، ولو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه). فقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: معنى كلامه: أنهم ظنوا وتوهموا أنهم بلغوا إلى مقام النهاية، بحيث لا مقام فوق ذلك، ولو أدرك أحدهُم صبيَّاً لنبههم على أن ما فاتهم أكثر مما أدركوا ولانقادوا له. اهـ. بالمعنى. والله تعالى أعلم.


قلت: {تصديق}: مصدر، والعامل فيه كان محذوفة، أو أنزل، و{لا ريب}: خبر ثالث لها، و{من رب العالمين}: خبر آخر، أي: كائناً من رب العالمين، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل، و{لا ريب}: اعتراض، أو بالفعل المعلل بهما وهو نزل ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب، أو من الضمير في {فيه}،: وأم: منقطعة بمعنى بل مع الاستفهام الإنكاري، وكيف خبر كان.
يقول الحق جل جلاله: {وما كان هذا القرآنُ أن يفترى من دون الله} أي: صح له أن يفترى من الخلق، إذ لا قدرة له على ذلك، {ولكن} كان {تصديقَ الذي بين يديه} من الكتب، أو: ولكن أنزله تصديقاً لما سلف قبله من الكتب الإلهية، المشهود على صدقها؛ لأنه مطابق لها، فلا يكون كذباً، كيف وهو لكونه معجزاً عيار عليها، شاهد على صحتها؟ {وتفصيلَ الكتاب} أي: وأنزله تفصيلَ ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع، التي تضمنها الكتاب، {لا ريبَ فيه}: لا ينبغي أن يرتاب فيه؛ لما احتفّت به من شواهد الحق، وارتياب الكفار فيه كلا ريب. كائناً {من رب العالمين}، أول نزل منه.
{أم}: بل {يقولون افتراه} محمد من عند نفسه؟ {قل فأتُوا} أنتم {بسورةٍ مثله} في البلاغة وحسن النظم، وجودة المعنى، فإنكم مثلي في العربية والفصاحة، {وادعوا من استطعتم}: مَنْ قدرتم عليه من الجن والإنس، يُعينكم على ذلك، {من دون الله} فإنه وحده قادر على ذلك، {إن كنتم صادقين} أنه مفترىً.
{بل كذّبوا} أي: سارعوا إلى التكذيب {بما لم يُحيطُوا بعلمه} وهو القرآن، بحيث لم يستمعوه، ولم يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه، حتى يعلموا أحق هو أم لا، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علماً، من ذكر البعث والجزاء، وسائر ما يخالف دينهم، {ولمَّا يأتهم تأويلُهُ} أي: ولم يقفوا بعدُ على تأويله، ولم تبلغ أذهانهم معانيه، أو لم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، حتى يتبين لهم أنه صدق أو كذب، والمعنى: أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى، ثم إنهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه، ويتصفحوا معناه.
ومعنى التَّوقع في {لمَّا}: أنه قد ظهر بالآخرة إعجازه؛ لمّا كرر عليهم التحدَّي؛ فزادوا أذْهانهم في معارضته؛ فتضاءلت دونها، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر به طبق ما أخبر مراراً فلم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً. قاله البيضاوي. قال ابن جزي: لمَّا يأتهم ما فيه من الوعيد لهم، أي: وسيأتيهم يوم القيامة أو قبله.
{كذلك كذَّب الذين من قبلهم} أنبياءهم، {فانظر كيف كان عاقبةُ الظالمين}، فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
{ومنهم} من المكذبين {من يؤمن به} أي: يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند، أو مَن يؤمن به ويتوب عن كفره، {ومنهم من لا يؤمن به} في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أو لا يؤمن فيما يستقبل فيموت على كفره، {وربك أعلم بالمفسدين}: بالمعاندين أو المصرين.
الإشارة: إذا تطهرت القلوب من الأغيار، وتصفّتْ من الأكدار، أوحى إليها بدقائق العلوم والأسرار، وما كان لتلك العلوم أن تُفترى من دون الله؛ ولكن تكون تصديقاً لما قبلها من علوم القوم وأسرارها، التي يهبها الله لأوليائه، وفيها تفصيل طريق السير، وما أوجبه الله على المريدين من الآداب، وشروط المعاملة، فمن طعن في ذلك فليأت بشيء من ذلك من عند نفسه، ويستعنْ على ذلك بأبناء جنسه، بل كذَّب بما لم يُحط به علمُه، ولم يبلغه عقلُه وفهمُه، فإن كشفت عند الله الحقائق ظهر تأويل ما ينطق به أهل الحقائق، ومن الناس من يؤمن بهذه الأسرار، ومنهم من لا يؤمن بها ويطعن على أهلها، حتى ربما رموهم بالزندقة لأجلها، وربك أعلم بالمفسدين.


قلت: {من} الموصولة لفظها مفرد، معناها واقع على الجمع أو غيره، فإن عاد الضمير عليها جاز فيه مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ، فقوله: {ومنهم من يستمعون} راعى جانب المعنى، وقوله: {ومنهم من ينتظر} راعى جانب اللفظ، فإن راعى أولاً اللفظ جاز أن يرجع إلى مراعاة المعنى، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ} [محمد: 16] وأما إن راعى أولاً المعنى فلا يرجع إلى مراعاة اللفظ، لأن مراعاة المعنى أقوى. أنظر الإتقان.
يقول الحق جل جلاله: {وإن كذبوك}؛ كذبك قومك بعد إلزام الحجة لهم {فقل} لهم: {لي عملي ولكم عملكم} أي: فتبرأ منهم وقل لهم: لي جزاء عملي، ولكم جزاء عملكم، حقاً كان أو باطلاً، {أنتم بريئون مما أعملُ وأنا بريء مما تعملون}، لا تؤاخذهم بعملي، ولا أُؤاخذ بعملكم، ولأجل ما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل: إنه منسوخ بآية السيف.
{ومنهم من يستمعون إليك} إذا قرأت القرآن، أو علمت الشرائع، ولكن لا يقبلون، كالأصم الذي لا يسمع أصلاً، {أفأنتَ تُسمع الصُّمَّ} تقدر على إسماعهم {ولو كانوا لا يعقلون} أي: ولو انضم إلى مصممهم فَقْدُ عقولهم، فهو احرى في عدم الاستماع.
قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام هو فهم المعنى المقصود منه، ولذلك لا توصف به أي: بالاستماع البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل وتدبره. وعقولهم لما كانت مؤوفة أي: قاصرة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد بعدت أفهامهم عن فهم الحِكَم والمعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق. اهـ.
{ومنهم من ينظر إليك} أي: يعاينون دلائل نبوتك، ولكن لا يصدقون، كأنهم عمي عنها، {أفأنت تهدي العُمْيَ}: تقدر على هدايتهم {ولو كانوا لا يُبصرون} أي: وإن انضم إلى عدم البصرَ عدم البصيرة، فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار، والعمدة في ذلك البصيرة، فإذا فقدت فلا اعتبار ولا استبصار، ولذلك يُحدس الأعمى المتبصر، ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق. والآية كالتعليل للأمر بالتبري.
{إن الله لا يظلم الناسَ شيئاً} بسلب حواسهم وعقولهم، {ولكن الناس أنفسَهم يظلمون} بإفسادهم وإهمالها، وتفويت منافعها عليهم. وفيه دليل على أن للعبد كسباً، وأنه ليس مسلوب الاختيار بالكلية، كما زعمت الجبرية، ويجوز ان يكون وعيداً لهم، بمعنى: أن ما يحيق يوم القيامة من العذاب عدل من الله، لا يظلمهم به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه. قاله البيضاوي.
الإشارة: إذا رأى أهل الوعظ والتذكير قوماً غرقوا في بحر الهوى، وأخذتهم شبكة الدنيا واستتحوذت عليهم الغفلة، فذكروهم وبذلوا جهدهم في نصحهم، فلم يقلعوا، فليتبرؤوا منهم، وليقولوا: نحن براءٌ مما تعملون، وأنتم بريئون مما نعمل. ومنهم من يستمع إلى وعظك أيها الواعظ، ولكن لا يتعظ، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون. ومنهم من يشاهد كرامتك وخصوصيتك ولكن لا يهتدي، فأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون؟ {إن الله لا يظلم الناس شيئاً}، بل في كل زمان يبعث من يذكر ويُدَاوي أمراض القلوب، {ولكن الناس أنفسهم يظلمون}، حيث حادوا عنهم، وأساؤوا الظن بهم، وبالله التوفيق.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10